المعاجزة في اللغة : هي المعاندة والمحاربة، وفي الشرع: محاولة
تعجيز رسل الله وشرعه ومراده في الكون، والمعاجز صاحب عقلية مصارعة، ونفس
خبيثة، لا يسلم لله، فيخرج من أمره الشرعي ويتحدي آيات الله وأوامره لا
مهال الله له، وقد توعده الله بسوء الخاتمة إذا استمر على ذلك الحال. فقال
تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [الحج:51].
والمعاجز يحاول الخروج عن أمر الله الكوني كذلك فيسعي لتغيير جنسه ولإطالة
عمره، وإلى تغيير خلق الله، وكأنه يمتثل امتثالا شديدا لأمر الشيطان له
بذلك، كما حكى ربنا ذلك في كتابه فقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ
اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا *
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ
فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:117-119].
وقد نهى الله عن المعاجزة في آياته، والمعاجزة في آيات الله هو نقيض المؤمن
الذي سلم بآيات الله، فالمعاجز لا يصدق ولا يسلم ولا يرضخ لحكم الله
وأمره، قال تعالى: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ
فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ} [الأحقاف:32]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا
مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ:5].
وقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ} [سبأ:38] فالناس فريقان. فريق فهم عن
الله وطبق، وفريق رفض أن يفهم وعاجز وصار مفسدا في آيات الله التي خلقها
من حولنا في كونه الفسيح، فوصفهم الله بأنهم (أَصْحَابُ الجَحِيمِ) وذلك
لاستمرارهم ودوامهم على ذلك الحال، فمن داوم على شيء كان صاحبه؛ فالمسألة
ليست هينة وليست سهلة، وليست مجرد أحكام لا أثر لمن امتثل بها، ولمن
خالفها، وإنما هي رؤى كلية للكون والإنسان والحياة والعقيدة، غايتها تعظيم
الله حيثما يستحق أن يكون في قلوب العباد، ويستحق أن تسلك أيها المسلم
سلوكك في الحياة الدنيا مرتبطاً بهذا الفهم وتلك العقيدة.
فالإنسان ضعيف ويلجأ إلى الله في الشرق والغرب -على ما يدعيه من إلحاد، ومن
موت الإله، ومن خرافة الأديان- يظهر ذلك اللجوء إلى الله عند الفزع والخوف
والضرر، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ
مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزُّمر:8].
فعندما شاع الإيدز في بلاد الغرب قالوا: إنها لعنة السماء، وتكلموا عن
اصطدام الإنسان بحائط القدر، يعني صرحوا بالعجز مع الله، هم يسمونها (حائط
القدر) وربنا يسميها المعاجز.
فالمعاجزة إذن حالة وهمية يتوهم فيها الإنسان المغرور أموراً منها: أن له
قوة أصلا وله ملكا ذاتيا، ولا يعلم أن القوة لله جميعا، وأن الله المالك
وحده، ثم يتوهم أن ما يظهر عليه من قوة هي من الله، ومن ملك هو لله، ويتوهم
أن ذلك لا يمكن أن يزول منه، ويتوهم أنه قادر على إبقائه وحراسته، ثم
يتوهم بعد ذلك أن هذه القوة التي توهم أنها ذاتية أنها باقية أنها تقوي على
معاندة أمر الله، فالله خلقنا وأمرنا بعمارة الأرض، وحد لنا حدودا، وأمرنا
بأوامر ونهانا عن نواه، وينبغي على العاقل أن يقف عند حدود الله، وأن
يأتمر بأمره، وينتهي عن نواهيه، فإن التعامل مع أوامر الله ونواهيه فرع على
معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم به، فلابد أن يتيقن المسلم أن الله هو
الفعال لما يريد، وأنه علي كل شيء قدير، وأنه تقدست ذاته، وسما قدره، لا
مثيل له، ولا ند له، ولا ضد له، ولا يعجزه شيء.
فتدبر أيها المؤمن كتاب ربك، واعلم أنه قد أنزله ليخرجك من الضلالة إلى
الهدى، ومن الظلمات إلى النور، اللهم لا تجعلنا من المعاجزين وارزقنا
الاستقامة والإيمان والتسليم، اللهم اجعلنا من الحامدين الشاكرين الصابرين
المحتسبين الراضين بقضائك وقدرك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد
لله رب العالمين.
الإمام العلامة : علي جمعة