السؤال اللاهث اللاهب الذي كان يملأ على طريقي كلها و أنا عائد من زيارة
الهند, مارا في سماء البحر العربي و هضاب عُمان, مطلا على الإمارات,
مجتازا الكويت إلى دمشق, مليئا بروائح النفط و طيوف من الحضارة و البداوة
تحيط بهذه الروائح, قبل أن أواجه أرواح الغوطة و نسائم بردى, ممتلئ القلب
بالرمال و الصحارى, متمنيا لو استطعت أن أزحف على كل رمل, أًقبل مواطن
أقدام أولئك الذين انطلقوا من مدينة الرسول_صلى الله عليه وسلم_ و بوادي
الجزيرة, ووحدوا هذا الجيل من الناس بعد طول اقتتال و خصام, السؤال الذي
كان يملأ علي و جودي كله, و دنياي كلها في هذه الرحلة هو:لماذا؟؟
لماذا يظل العرب يعيشون في أتون الفرقة, و ينعمون في مهاوي التخلف؟ لماذا؟
لماذا أقطع الطريق في هذه الأجزاء من أرض العرب, أبرز جوازي مره في كل نصف
ساعه, كأني أنتفل من دولة الى دولة, على حين قطعت ألاف الأميال و أجتزت
أبعد المسافات, و انتقلت من بحر الى بر, ومن الساحل الى الداخل ومن الوادي
الى الجبل, و أوشكت أن أبلغ المرتفعات العليا في "كشمير" دون أن يسألوني
أين جوازك؟
الهند قارة"غابة من اللغات و الحروف, ومن الاصوات و الكلمات , و مع ذلك فان
الذي يلف هذه الغابة ما يقربها منها أو يصلها بها, ومع ذلك يعيش بها 700
مليون (عدد سكان الهند في منتصف الثمانينات ) وقد انتظمها نسق واحد غريب.
فكيف لا ينتظمنا _في بلاد العرب_نسق لغوي أصيل, هو هو في كل مكان من هذه
البلاد, هو في الواقع الخارجي, وهو في الواقع النفسي, وهو في واقع الفرد,
وفي الجماعة, هو في الوجدان, وهو في العقل تسمعه في أطراف الجبل الأخضر على
المحيط الهندي, ثم يصحبك في الرحلة البعيدة الى أطراف الأطلسي. فكيف
استطاع التشتت اللغوي في القارة الهندية أن يختفي عن طريق الدولة الواحدة,
ثم لم يستطع التوحد اللغوي أن يساعد في الأرض العربية على إنشاء الدولة
الواحدة؟
لماذا يتكلم الهنود في الواقع العملي لغة رسمية واحدة, و نتكلم في الواقع
الشعري لغة واحدة ننساها في الواقع العملي, ليتكلم كل منا على هواه, و
لتنقطع الصلة بين اللغه و الفكر, بين الواقع و الواجب, فاذا نحن لا يسمع
بعضنا بعضا, فاذا سمع فانه لا يعي, واذا وعى فانه الوعي الذي لا يقود الا
الى الجدل؟
ان اللغات التي لا تحصى عندهم اختلافا تختفي و راء لغة الواقع و الإرادة و
الحزم لتكون الصوت المسموع في العالم, ان اللغة عندهم هي الفكر, ونفتقد نحن
هذا التلاؤم أشد فقد و أوجعه, بين لغتنا و تفكيرنا !
لماذا تختلط الدماء على طول الهند و عرضها, لتؤلف هذه البحيرة التي تنتهي
اليها كل هذه الروافد المتباينة, فتتلاقى هذا التلاقي المتجدد, و تنبض
النبض المشترك, و يكون لها هذا الأرج الواحد, أرج الهند؟
لماذا كان ذلك هناك؟ و لماذا تؤلف بحيرة الدم العربي هذا "الأرخبيل" من
الجزر الصغيرة, ينحسر عنها بحر, ثم يغطيها بحر , تخلق من بينها هذه الجسور؟
لماذا يكون لهذا الدم العربي عشرات القلوب التي ينبض بها, ولا يكون دم لقلب
واحد,ينبض بوجود واحد, ويستشرف أفقا واحدا, و يتطلع الى مستقبل واحد.
لماذا نعد, حين نعد, أفرادا من آلاف قليلة, أو ملايين معدودات, ولا ننسب,
حين ننسب الى مئة المليون أو تزيد التي نحن منها؟ (يزيد عدد العرب عن 200
مليون).
لماذا نحمل اثنان و عشرين جوازا, لكل جواز لون, و لكل جواز تسمية و خاتم
وشارة, حتى لنكاد نجهل بعض الأسماء, و تجهلنا بعض الأسماء, ويحمل غيرنا
جوازا واحدا و شكل واحد؟
لماذا يرتفع في سمائنا اثنان و عشرين علما, ولكل علم قصة, ثم ننسى القصة
الكبرى, رسالة العلم واحد, يطوي أللأعلام الصغيرة ليؤلف قصة العلم الواحد؟؟
إنك تسألني لماذا؟و إني لأتساءل لماذا؟
دعني من تطويلات القول و زخرفاته, فقد بدأت منذ حين قريب أذهب إلى أن الذي
يقتلنا إنما هو الكلام, و تمنيت لو قطع العرب طريق الجدل, ليأخذوا طريق
العمل. تمنيت لو أن العرب صمتوا و امتنعوا عن الكلام, بعض ألأعوام, و
انصرفوا الى عمل ينفذونه و أمل يحققونه.
أيها العائد الى وطنك من أي بلد كنت:لتكن الكلمة الحلال التي تستطيع أن
تقولها و يجب أن تقولها, أني كان موقفك الحياة في وطنك:لماذا؟؟؟؟
وحين نكتشف الجواب, نكون قد اكتشفنا الطريق..