يُكوّن عقلَ المسلم مجموعةٌ من الإدراكات العقلية، وهي التي تتحكم
في المسلم عند نشاطه واختياراته ووضع برامجه وأهدافه، حتى إذا ما غابت هذه
الإدراكات عن ذهن المسلم، فإنه يتخبط ويفقد المعيار السليم للقرار السليم،
ويضع استراتيجيات أخرى غير التي أمر الله بها، وهذه الإدراكات العقلية جزء
من بناء النموذج الحضاري للإنسان وهي إفراز للسمات العقائدية التي تم
تشييدها، وهي تتشعب على ثلاثة أقسام: إدراك صفات الله القائم على الإيمان
بوحدانيته، وإدراك الواقع المعيش القائم على الإيمان بالتكليف، وإدراك سنن
الخلق القائم على الإيمان باليوم الآخر.
فكل قسم من هذه الإدراكات قائم على سمة من سمات العقيدة، فالإنسان المفكر
يتكون من عقيدة راسخة وعقل مُدرك، وبهما يفهم الإنسان محور حضارته وقواعدها
ومقاصدها فلا ينحرف عن الطريق المستقيم الذي أمر الله تعالى باتباعه، وهذا
الطريق المستقيم هو الفارق بين حضارة الإسلام وغيرها من الحضارات، ولهذا
يدعو المسلم ربه عز وجل في كل ركعة في صلاته أن يهديه إليه: {بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ *
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ} [الفاتحة:١-7].
1- يؤمن الإنسان المسلم بالمطلق لأنه آمن بأن الله لا نهائي ولا محدود،
وهذا الإيمان باللانهائي واللامحدود قائم على إدراك الإنسان لصفات الله عز
وجل وأسمائه، فأسماء الله الحسنى التي وردت في القرآن والسنة تمثل الهيكل
التربوي للمسلم. قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠]، وهذه الأسماء والصفات يمكن تقسيمها إلى
صفات جمال: كالرحمن والرحيم، والعفو والغفور، وصفات جلال: كالمنتقم الجبار،
الشديد المحال، وصفات كمال: كالأول والآخر، والظاهر والباطن، والضار
والنافع. والمؤمن يدرك صفات الجمال فيتخلق بها، فيعفو ويصفح ويرحم، ويدرك
صفات الجلال فيتعلق بها، فيمسك نفسه عند الغضب ويصد نفسه عن شهوة الانتقام
ولا يعلو ولا يستكبر، ويدرك صفات الكمال فيصدقها ويؤمن بها، والتخلق
بالجمال والتعلق بالجلال والإيمان بالكمال من مكونات العقل المسلم القادر
على بناء الحضارة.
2- وعلى الإنسان المسلم إدراك الواقع بعوالمه المختلفة، فللواقع عوالم
خمسة: عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، وعالم
النظم. ويمكن أن نضيف إليها كل يوم ما يتناسب مع استقراء الواقع، وتحليل
مكوناته. وهذه العوالم الخمسة في غاية التركب والتداخل، وليست منفصلة بأي
صورة من الصور، مما يجعل من إدراك العلاقات البينية بين كل عالم فيها مع
العوالم الأخرى جزءا لا يتجزأ من فهم الواقع الفهم الدقيق الواضح، وأيضا
لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم ليست ثابتة، ولذلك فلابد من تفهمها في
تغيرها الدائم المستمر باعتبار أن هذا من سنن الله في كونه: {كُلَّ يَوْمٍ
هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩].
ولقد استقر في الفقه الإسلامي أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت
مبنية على الواقع وما فيه من الأعراف الزائدة، والتقاليد المستقرة أو
المتغيرة، فباختلاف تلك الأعراف والتقاليد من زمان لزمان، أو من مكان لمكان
تتغير الأحكام، كما تقرر أن الأحكام تتغير بين ديار المسلمين، وغير
المسلمين في مجال العقود، لأن المسلم الذي يقيم في بلاد غير المسلمين ينبغي
عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية، وألا ينعزل في دروب من غير اندماج في
مجتمعه، بل يجب عليه هذا الاندماج، لأنه أولاً وأخيراً مأمور بالدعوة إلى
الإسلام بمقاله أو بأفعاله أو بحاله.
3- وعلى المسلم أن يتجه بإدراكه لهذا الكون الفسيح المحيط به الذي يمثل
البيئة الخارجية لنشاطه، ويفهم أن له سنناً إلهية، وأن إدراك هذه السنن
نقطة محورية في سلوكياته وقراراته، فيُدرك سنة التكامل، حيث خلق الله
سبحانه وتعالى الأكوان مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الهدف والغاية،
فهذا الخلاف والاختلاف إنما هو للتنوع وليس للتضاد، فالليل والنهار
يشكِّلان يوما واحدا، لكل منهما خصائص، فهما متكاملان رغم اختلافهما، وهذا
الإدراك يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم
العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو
إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على
حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول على حقوقه، وأن الإنسان
يجب أن يصارع الكون حتى يحصِّل منه منفعته.
ويفهم المسلم أيضا سنة التدافع وهي تبين أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه
وتعالى اجتماعيا يحتاج إلى الآخرين، وهم يحتاجون إليه، فلم يخلقه منعزلا
قادرا على البقاء وحده حتى يحقق مراد الله من خلقه، بل إنه لابد أن يعمل في
فريق ليصل إلى هدفه، وأن يدرك أن عمله في الفريق وحراكه الاجتماعي ونشاطه
الذاتي يحتاج إلى إدراك سنة التدافع، وإدراك هذه السنة يتولد منه قوانين
كثيرة لضبط هذا النشاط وذلك الحراك. ويفهم الإنسان كذلك سنة التوازن، وهي
تؤكد أن الاستقرار هو الأساس الذي يجب أن ينتهي إليه النشاط الإنساني بعد
التوتر الذي يبدأ به.
هذه الإدراكات العقلية تؤسس الفكر السليم الذي تحتاج له الأمم في نهضتها
واستمرار قوتها، وحتى لا يحل محله التفكير المعوج الذي إذا شاع اختلت
الأمور وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية، وأمام الإبداع الإنساني،
وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم، وأمام تحصيل القوة، وإذا
كان كذلك تشتتت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية وباءت جميع
محاولاتنا لبناء الحضارة بالفشل.