الحمد لله رب العالمين
اللهم صل على محمد وال محمد
لقد ذهب المفكّرون الشيعة إلى عصمة الأنبياء، وأنّهم معصومون من الذنب وكونهم مصونين من الخطأ قبل البعثة وبعدها، من غير فرق بين الذنوب الصغيرة والكبيرة والعمد والسهو. ونشير في البداية وبصورة مختصرة إلى الدليل العقلي للعصمة، ثمّ نشرع في ذكر الدليل القرآني على ذلك، ثمّ إنّنا نكتفي بدليلين من الأدلّة العقلية فقط، لأنّهما أكثر من غيرهما قوة وإحكاماً في إقناع الوجدان البشري.
1. القول بالعصمة يولد الوثوق بأفعالهم وأقوالهم
إنّ الهدف الأسمى والغاية القصوى من بعثة الأنبياء هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية وتربيتهم، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ في ظلّ بعض شروط من أهمّها الإيمان بصدق المبعوثين والمربّين، ومع فقدان هذا الشرط تذهب جميع جهود ذلك المربّي أدراج الرياح ويكون عمله كالنقش على الماء.
ولا ريب أنّه كلّما كان فعل المربي مطابقاً لقوله، كلّما تمكّن من جذب الناس إليه، ويكون ذلك سبباً لتوجه الناس إلى الدين الذي يدعو له.
وأمّا إذا كان هناك انفصام بين القول والعمل، فلا شكّ أنّه سيفقد حينئذ ثقة الناس واعتمادهم عليه وتصديقهم بصحّة دعواه. وحينئذ يتساءل كلّ عاقل: لو كان ذلك المربي مؤمناً بصحّة نظريته ورسالته فمن المستحيل أن يمارس عملاً أو يقوم بفعل يخالف تلك النظرية، بل ينبغي أن يكون هو السبّاق للعمل بما يدعو إليه.
ومن الممكن أن يقال: إنّه يكفي في الاعتماد على النبي مصونيته عن معصية واحدة، وهي الكذب فقط، أي أنّه لا يكذب. ولكن من الممكن أن يرتكب مخالفات أُخرى، وهذا لا يدلّ على زيف دعواه وبطلان نظريته وعجزه عن التربية والهداية.
والجواب: أنّ التفكيك بين المعاصي فرضية محضة لا يصحّ أن تقع أساساً للتربية العامّة لما فيها من الإشكالات:
أوّلاً: أنّ المصونية عن المعاصي نتيجة لإحدى العوامل التي ذكرناه في بحوثنا عند البحث عن حقيقة العصمة حيث قلنا: إنّ العصمة مقابل الذنوب جميعها أو بعضها معلول لسلسلة من الملكات والحالات النفسية التي تردع الإنسان عن الإقدام على المخالفة، ومن بين تلك الملكات يمكن الإشارة إلى «العشق الإلهي وحبّ الجمال والجلال» أو «الخوف من عواقب الذنوب» و غير ذلك. ففي مثل هذه الصورة كيف يمكن أن نتصوّر التفكيك بين الذنوب؟ وكيف نفترض وجود إنسان مستعد للقيام بأيّ نوع من أنواع الذنوب من قبيل قتل النفس وهتك الأعراض وأكل المال بالباطل وغير ذلك ولكنّه في نفس الوقت يستحيل أن يكذب على اللّه تعالى؟ فإذا لم تكن في الإنسان صفة أو حالة الخوف من اللّه فلا وجه للتفكيك بين الذنوب.
ثانياً: لو صحّ التفكيك بينهما في عالم الثبوت والواقع، لا يمكن إثباته (الداعي لا يكذب أبداً وإن كان يرتكب سائر المعاصي) في حقّ الداعي ومدّعي النبوة.
إذ كيف يمكن للإنسان أن يقف على أنّ مدّعي النبوة مع ركوبه المعاصي واقترافه للمآثم لا يكذب أصلاً، حتى ولو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك لسرى الريب إلى نفس هذا الكلام أيضاً.
وخلاصة ذلك: انّ الهدف من بعثة الأنبياء ـ الذي هو هداية الناس ودعوتهم إلى الدين ـ لا يتحقّق إلاّ في ظلّ «كسب اعتماد الناس وثقتهم بالداعي».
وإنّ هذا الهدف والمسلك العام لا يتحقّق إلاّ من خلال نزاهة وعصمة المربّي،وعلى هذا الأساس لابدّ أن يكون الأنبياء ـ وبحكم العقل ـ معصومين من الذنب والعصيان ليتسنّى لهم كسب الناس وانضمامهم إلى الدعوة والسير في طريق الهداية.
ويمكن أن يتصوّر أنّه يكفي في جلب ثقة الناس وقبولهم للدعوة نزاهة النبي عن اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي علانية وعلى مرأى ومسمع من الناس، وهذا لا ينافي كونه عاصياً ومقترفاً للذنوب في الخلوات وفي الخفاء، وهذا القدر من النزاهة كاف في جلب الثقة.
ولا ريب أنّ هذا التصوّر بحقّ الأنبياء يهدم الهدف من بعثتهم، وذلك لأنّه في حال تجرّد النبي عن السبب المانع والرادع النفسي عن اقتراف الذنب وإنّما يبتعد عن الذنب أمام أعين الناس لغرض جلب رضاهم وثقتهم به، ففي هذه الصورة يفقد النبي ثقة الناس بصدقه، لأنّه من أين يعلم الناس أنّ هذا النبي في مجال تبيين الدساتير والأحكام الإلهية لا يكذب على اللّه؟
وحينئذ يفتقد الناس الملاك الحقيقي لتشخيص الصدق من الكذب.
أضف إلى ذلك أنّه يمكن للإنسان أن يخدع الآخرين بتزيين الظاهر مدة قليلة، ولكنّه لا يستطيع التستر على تلك الصفة النفاقية مدة طويلة فلا ينقضي زمان إلاّ وتنكشف السرائر ويُزاح الستار عن الحقيقة وتنكشف سَوْأته وتظهر عيوبه.
والخلاصة: انّ مثل هذه النظريات لا تنسجم مع بعثة الأنبياء، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى إنّها غير قابلة للإجراء والتنفيذ على الأرض، وبهذا ينحصر طريق كسب الثقة وجلب الاعتماد بنزاهة وعصمة الأنبياء من الذنوب الظاهرة والخفية، وكلّ فرضية من قبيل الفرضيتين السابقتين لا تتجاوز عن كونها نظرية خيالية وتوهّماً باطلاً.
2. عوامل الجذب والانزجار
إنّ السيد المرتضى قد قرّر هذا البرهان ببيان آخر، وقال ما هذا حاصله: إنّ الهدف من بعثة الأنبياء إنّما يتحقّق حينما تكون حياة الدليل(النبي) الإلهي منزّهة عن أيّ ضعف، لأنّه لا شبهة في أنّ من تجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه عدم الإقدام على الذنوب لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله واستماع وعظه كسكونها إلى من لانجوّز عليه شيئاً من ذلك، وهذا معنى قولنا: إنّ وقوع الكبائر منفّر عن القبول والمرجع فيما ينفّر وما لا ينفّر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه، وليس ذلك ممّا يستخرج بالأدلة والمقاييس، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه وأنّه من أقوى ما ينفّر عن قبول القول، فإنّ حظّ الكبائر في هذا الباب إن لم يزد على حظ السخف والمجون والخلاعة لم ينقص عنه.
فإن قيل: أليس قد جوّز كثير من الناس عليهم الكبائر مع أنّهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرّعوه من الشرائع، وهذا ينقض قولكم: إنّ الكبائر منفّرة؟
قلنا: هذا سؤال مَن لم يفهم ما أوردناه، لأنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وأن لا يقع امتثال الأمر جملة، وإنّما أردنا ما فسّرناه من أنّ سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه، وإنّا مع تجويز الكبائر نكون أبعد عن قبول القول، كما أنّا مع الأمان من الكبائر نكون أقرب إلى القبول، وقد يقرب من الشيء ما لا يحصل الشيء عنده، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده.
ألا ترى أنّ عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجّره وتبرّمه منفّر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه من أن يكون منفّراً; وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسّمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من أن يكون مقرباً، فدلّ على أنّ المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه.
فإن قيل: فهذا يقتضي أنّ الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة، فمن أين يُعلم أنّها لا تقع منهم قبل النبوة، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم، ولم يبق وجه يقتضي التنفير؟ قلنا: الطريقة في الأمرين واحدة، لأنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال وإن تاب منهما وخرج من استحقاق العقاب به لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه، ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا، الداعي إلى اللّه تعالى ونحن نعرفه مقترفاً للكبائر مرتكباً لعظيم الذنوب، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا، كحال من لم نعهد منه إلاّ النزاهة والطهارة، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدّمة بها وإن وقعت التوبة منها ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً و مؤثراً، وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير (ولأجل ذلك) وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير وإن كان أحدهما أقوى من صاحبه، ألا ترى أنّ كثرة السخف والمجون والاستمرار عليه والانهماك فيها منفر لا محالة، وأنّ القليل من السخف الذي لا يقع إلاّ في الأحيان والأوقات المتباعدة منفر أيضاً، وإن فارق الأوّل في قوّة التنفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب عن الأوّل من أن يكون منفراً في نفسه.
فإن قيل: فمن أين قلتم إنّ الصغائر لا تجوز على الأنبياء (عليهم السلام) في حال النبوة وقبلها؟
قلنا: الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمّل، لأنّا كما نعلم أنّ من يجوز كونه فاعلاً لكبيرة متقدّمة قد تاب منها وأقلع عنها ولم يبق معه شيء من استحقاق عقابها وذمّها، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه، فكذلك نعلم أنّ من نجوّز عليه الصغائر من الأنبياء (عليهم السلام) أن يكون مقدماً على القبائح مرتكباً للمعاصي في حال نبوّته أو قبلها وإن وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كلّ القبائح ولا نجوّز عليه فعل شيء منها.( [1])
القرآن وعصمة الأنبياء من المعصية
بعد أن ذكرنا الدليل العقلي على عصمة الأنبياء ينبغي أن نرى الموقف القرآني من تلك القضية، انّ نظرة فاحصة إلى القرآن الكريم تبيّن لنا وبوضوح أنّ القرآن ينسجم مع حكم العقل في هذه المسألة، وصحيح أنّ القرآن الكريم لم يصرّح بعصمة الأنبياء على نحو الدلالة المطابقية كما صرّح في عصمة الملائكة، ولكن يمكن من خلال الإمعان في آيات الذكر الحكيم العثور على آيات كثيرة يمكن الاستدلال من خلالها على إثبات المطلوب ـ عصمة الأنبياء ـ وها نحن نشير إلى عدّة طوائف من آيات الذكر الحكيم.
الطائفة الأُولى
إنّ المتتبع للقرآن الكريم يجد هناك ثلاث آيات إذا ضممنا بعضها إلى بعض نستطيع إثبات عصمة الأنبياء، وهذه الآيات هي:
1. إنّ القرآن الكريم بعد أن يذكر أسماء عدد من الأنبياء والرسل يردفه بقوله: ( أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللّهُ فَبهُديهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّذِكْرى لِلْعالَمينَ ) .( [2])
2. ويقول سبحانه : ( ...وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هاد * وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلّ... ) .( [3])
3.ويقول سبحانه أيضاً: ( أَلَمْ أَعْهَدْإِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ * وَأَنِ اعْبُدُوني هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ * وَلَقَدْأَضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاًّ كَثيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .( [4])
ومن خلال ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض نستطيع التوصل إلى عصمة الأنبياء، لأنّ الآية الأُولى وبحكم مفاد جملة: ( أُولئِكَ الَّذينَ هَدَى اللّهُ ) تدلّ على أنّ الأنبياء مهديّون بهداية اللّه سبحانه على وجه يوجب الاقتداء بهم واتّخاذهم أُسوة.
وفي الآية الثانية نرى أنّ جملة: ( وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلّ ) تدلّ على أنّ من شملته الهداية الإلهية لا يضلّ ولا مضلَّ له، وأمّا الآية الثالثة فانّها تصرح بأنّ العصيان نفس الضلالة أو مقارن وملازم لها حيث تقول: ( وَلَقَدْأَضَلَّ مِنْكُمْ جِبلاًّ كَثيراً ) وما كانت ضلالتهم إلاّ لأجل عصيانهم ومخالفتهم لأوامره ونواهيه.
وبالالتفات لهذه المضامين الثلاثة يمكن وبوضوح استنباط عصمة الأنبياء، وذلك إذا كان الأنبياء مهديّين بهداية اللّه سبحانه، ومن جانب آخر لا يتطرق الضلال إلى من هداه اللّه، ومن جانب ثالث إذا كانت كلّ معصية ضلالة يستنتج انّ من لا تتطرق إليه الضلالة لا يتطرق إليه العصيان.
وإذا أردنا أن نفرغ مفاد هذه الآيات في قالب الأشكال المنطقية نقول:
كلّ معصية وذنب ضلالة وانحراف. والضلالة والانحراف لا سبيل لها إلى ساحة الأنبياء.
النتيجة: المعصية والذنب لا سبيل لها إلى ساحة الأنبياء
الطائفة الثانية
إنّ القرآن الكريم وعد الذين يطيعون اللّه ورسوله بأنّهم سيحشرون مع الذين أنعم اللّه عليهم وهم:
1. الأنبياء، 2. الصدّيقون، 3. الشهداء، 4. الصالحون.
حيث يقول سبحانه:
( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنَعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ) .( [5])
وعلى هذا الأساس يكون «الأنبياء» من الذين أنعم اللّه عليهم بلا شك ولا ريب هذا من جهة، ومن جهة ثانية يصف اللّه سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة هذه الطائفة بأنّهم:
( غَيْرِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالّينَ ) .( [6])
أي أنّهم لم يكونوا مورداً لغضب اللّه وسخطه ولا هم ناكبون عن الصراط المستقيم، فإذا انضمت الآية الأُولى الواصفة للأنبياء بالإنعام عليهم إلى هذه الآية الواصفة لهم بأنّهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين، يستنتج عصمة الأنبياء بوضوح، لأنّ العاصي من يشمله غضب اللّه سبحانه ويكون ضالاً بقدر عصيانه ومخالفته.
الطائفة الثالثة
انّه سبحانه يصف جملة من الأنبياء بمجموعة من الصفات يقول تعالى:
( أُولـئِكَ الَّذِينَ أَنْعَـمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّـةِ آدَمَ وَمِمَّـنْ حَمَلْنا مَعَ نُوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهيمَ وَإِسْـرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُالرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) .( [7])
فمن الملاحظ انّ الآية الكريمة تصف الأنبياء بالأوصاف التالية:
1. ( أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) .
2. ( هَدَيْنا ) .
3. ( وَاجْتَبَيْنا ) .
4. ( خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) .
ثمّ إنّه يصف في الآية التالية لهذه الآية ذرية هؤلاء وأولادهم بأوصاف تقابل الصفات الماضية حيث يقول سبحانه:
( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً ) .( [8])
ومن الملاحظ أنّه سبحانه يصف هذا الخلف بأوصاف ثلاثة تضاد أوصاف آبائهم، وهذه الصفات هي:
1. ( أَضاعُوا الصَّلاةَ ) .
2. ( وَاتَّبَعُوا الشَّهَوات ) .
3. ( يَلْقَونَ غَيّاً ) .
وبحكم المقابلة بين الصفات المذكورة للطائفتين يمكن التوصّل إلى النتيجة التالية وهي: انّ الأنبياء ممّن لم يضيع الصلاة ولم يتبع الشهوات وممّن لا يلقون غيّاً، وكلّ من كان كذلك فهو مصون من الخلاف ومعصوم من اقتراف المعاصي، لأنّ العاصي لا يعصي إلاّ لاتّباع الشهوات وسوف يلقى أثر غيّه وضلالته.
الطائفة الرابعة
لا ريب أنّ المصلحين وعظماء العالم يقودون المجتمع إلى طريق الهداية والسعادة من خلال أقوالهم وأفعالهم، وانّ الجماعات المنقادة لهؤلاء المصلحين تتّخذ من أقوالهم وأفعالهم أُسوة وقدوة للاقتداء بهم والسير على نهجه، ولا ترى فرقاً بين القول والعمل في مجال التربية والإصلاح حتّى إذا فرضا انّ المصلح دعاهم إلى الاقتداء بقوله دون عمله، نجد انّ الناس يتعاملون مع هذه الدعوة باعتبارها بعيدة عن المنطق السليم، وحينئذ وبلا ريب أنّهم سيتفرقون عنه وينفصلون عن طريقه ومسلكه.
ففي مثل هذه الشروط الحاكمة في المجتمع نرى القرآن الكريم يقول:
( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ... ) .( [9]) إنّ هذه الآية وبالالتفات إلى الأرضية السابقة تفيدنا انّه يجب الاقتداء بأقوال الأنبياء وأفعالهم وانّه إذا كان قول النبيّ حجّة وجديراً بالاتّباع، فإنّه وبلا شكّ تكون أفعاله كذلك.
وكلّما كان عمل الأنبياء مطابقاً لما جاءوا به من نظام إلهي لا يكون الاقتداء بهم خالياً من الإشكال فحسب، بل يكون لائقاً بالاقتداء والتبعية.
وأمّا إذا اعتقدنا أنّ هؤلاء الأنبياء غير معصومين عن الخطأ وجوزنا عليهم الوقوع في الخطأ وارتكاب الذنب عن قصد أو غير قصد، ففي هذه الصورة سنواجه مشكلة أساسية وهي: انّنا وبموجب هذه الآية مأمورون بوجوب اتّباعهم والاقتداء بهم، والعمل طبقاً لمنهجهم هذا من جهة.
ومن جهة ثانية باعتبار كون عملهم مخالفاً للقوانين الإلهية يجب علينا مخالفتهم وعدم الاقتداء بهم، لأنّ الصادر منهم أمر منكر يحرم الاقتداء به واتّباعه وتجب مخالفته، وحينئذ يقع المكلّف في حيرة، لأنّه في الواقع من قبيل الأمر بالمتناقضين.
وهذا التكليف محال قطعاً، وهذا يكشف لنا أنّ الأمر الوارد في الآية السابقة الدالّ على إطاعة النبي مطلقاً انّ النبيّ معصوم عن الوقوع في الخطأ والانحراف وارتكاب الذنب، وهذا هو معنى العصمة.
الطائفة الخامسة
إنّ هناك طائفة من الآيات تحث المسلمين على الاقتداء بالنبي الأكرم وقبول دعوته من دون قيد أو شرط، وهذا النوع من الآيات يشهد على عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وها نحن نذكر هذه الآيات ونوضح دلالتها قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحيم ) .( [10])
ويقول سبحانه: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ... ) .( [11])
ويقول في آية أُخرى:
( وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتَّقهِ فَأُولئِكَ هُمُ الفائِزونَ ) .( [12])
كما أنّه سبحانه يُندد بمن يتصوّر انّ على النبي أن يقتفي أثر الرأي العام بقوله:
( وَاعْلَمُوا أَنَّ فيكُمْ رَسُولَ اللّه لَوْ يُطيعُكُمْ في كَثير مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْْ... ) .( [13])
إنّ هذه الآيات تدعو إلى طاعة النبي و الاقتداء به بلا قيد وشرط.
بل هناك آيات أُخرى تصرح انّ طاعة الرسول فرع طاعة اللّه سبحانه، وهذا يدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين:
1. انّ جميع دعواته وأوامره القولية مرضية من قبل اللّه وانّها واجبة الإطاعة والانقياد إليها.
فإذا فرضنا أنّه غير معصوم من الذنب والخطأ في القول ففي مثل هذه الحالة لا يمكن أن تكون جميع أوامره ودعوته لازمة التنفيذ على العباد، وبما أنّه سبحانه قد أمر باتّباعه والاقتداء به في جميع أقواله، فهذا الأمر يكشف أنّ النبي لم ولن يخالف الأوامر الإلهية ولم يخرج عمّا يرضي اللّه قيد شعرة، وإنّ ما يقوله هو عين الحقيقة دائماً.
2. انّ الدعوة عن طريق العمل والفعل من أقوى العوامل تأثيراً في مجال التربية والتعليم وأرسخها، وكلّ عمل يصدر من الرسل فالناس يتلقّونه دعوة عملية إلى اقتفاء أثره في ذلك المجال. فإنّ مقام النبوة في المجتمع مقام حسّاس ودقيق جداً حيث تخضع أقوالهم وأعمالهم للمراقبة الدقيقة من قبل المجتمع، وحينئذ يتّخذ المجتمع من حياتهم أُسوة وقدوة له، فإذا كان هؤلاء الأنبياء غير معصومين ومنزّهين فمن المستحيل أن يأمر اللّه باطاعتهم من دون قيد ولا شرط وخاصة انّ القرآن قد عرّفه بكونه «أُسوة» وأمر المجتمع بالاهتداء بنوره قولاً وعملاً واتّخاذه أُسوة لهم حيث قال سبحانه:
( لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرجُوا اللّه وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثيراً ) .( [14])
إنّ اعتبار الرسول أُسوة وقدوة يدلّ دلالة واضحة على أنّ جميع ما يصدر من الرسول من قول أو فعل، فإنّه منزّه عن الخطأ مهما قلّ وانّ جميع ما يصدر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مطابقاً لرضاه سبحانه وموافقاً لحكمه وانّه عين الحقيقة.
الطائفة السادسة
هناك طائفة من الآيات تحكي لنا قول الشيطان بعد طرده من قبل اللّه تعالى حيث قال: ( ...فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّعِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ ) .( [15])
وقد ورد هذا المضمون في الآيتين 39 و40 من سورة الحجرات حيث قال:
( ...وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّعِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصينَ ) .
فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن نزاهة المخلصين عن إغواء الشيطان وجرّهم إلى جادة الانحراف، ولا ريب انّ النزاهة عن الإغواء والانحراف تعني العصمة المطلقة، لأنّ كلّ فرد إذا اقترف ذنباً مهما كان صغيراً، فهذا يعني انّه قد وقع تحت إغواء الشيطان ومصائده وانّ للشيطان سهماً في هذا الذنب حيث إنّ عمل الشيطان هو الوسوسة في الصدور لا غير، وتنزّه الفرد عن الغواية يلازم التنزّه عن المعصية والتمرد على الشيطان، كما أنّ ارتكاب الذنب والمخالفة مهما صغرت لا تنفك عن إغواء الشيطان ودعوته وتحريكه. وعلى هذا الأساس كلّما تنزّه عباد اللّه المخلصون عن إغواء الشيطان، فبالطبع هذا يجرّ إلى تنزّههم عن الذنب.
هذه طائفة من الآيات التي دلّت على أنّ المخلصين معصومون ومنزّهون عن الذنب، وفي هذا المجال هناك طائفة أُخرى من الآيات تثني على هؤلاء المخلصين وتمدحهم.( [16])
وإلى جنب هذه الآيات هناك آيات أشارت إلى مصاديق وجزئيات«المخلصين» منها قوله تعالى:
( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولي الأَيْدي وَالأَبْصارِ * إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَة ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيار * وَاذْكُرْإِسْماعِيلَوَاليَسَعَ وَذا الكِفْلِوَكُلٌّ مِنَ الأَخْيارِ ) .( [17])
فهؤلاء الأنبياء الذين ورد ذكرهم في الآية وبحكم قوله: ( إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَة ) كلّهم من المخلصين الذين شهدت الآيات على نزاهتهم، وبضمّ هذه الطائفة من الآيات التي حدّدت المصاديق من المخلصين إلى الطائفة الأُخرى التي أثبتت أنّ «المخلصين» منزّهون عن إغواء الشيطان،وأنّهم معصومون من الذنب، يتّضح جلياً انّ هذه الطائفة من الأنبياء الذين ذكرت أسماؤهم في الآية السالفة معصومون ومنزّهون من الذنب قطعاً.
و الجدير بالذكر أنّ هناك أصل مسلم بين العلماء وهو: القول بعدم الفصل بين الأنبياء من ناحية العصمة حيث إنّ الجميع متّفقون إمّا على القول بعصمة الأنبياء أو عدم عصمتهم، ولا يوجد هناك من يفصل بين نبي دون نبي بأن يثبت العصمة لهذا دون ذاك. فإذا أخذنا هذا الأصل بعين الاعتبار يثبت انّ إثبات العصمة لطائفة من الأنبياء يستلزم إثباتها لجميع الأنبياء وإن لم يرد اسمهم في الآيات المحدّدة للمصاديق.
هذا بعض ما يمكن الاستدلال به على عصمة الأنبياء وبقيت هناك آيات يمكن الاستدلال بها على العصمة مثل قوله سبحانه:
( ...وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراط مُسْتَقيم ) .( [18])
إذ يمكن القول: إنّ المقصود من الاجتباء في قوله: ( اجْتَبَيْنا ) هو إفاضة العصمة عليهم بلا فصل بين نبي ونبي آخر.( [19])
________________________________________
[1] . تنزيه الأنبياء:4ـ 6.
[2] . الأنعام: 90.
[3] . الزمر:36ـ 37.
[4] . يس:60ـ 62.
[5] . النساء: 69.
[6] . الحمد: 7.
[7] . مريم: 58.
[8] . مريم: 59.
[9] . النساء: 64.
[10] . آل عمران: 31.
[11] . النساء: 80.
[12] . النور: 52.
[13] . الحجرات: 7.
[14] . الأحزاب: 21.
[15] . ص:82ـ 83.
[16] . انظر الصافات:40، 74، 128، 160، 169.
[17] . ص:45ـ 48.
[18] . الأنعام: 87.
[19] . منشور جاويد:5/37ـ 48.
ودمتم سالمين,
والسلام عليكم