تصحيحا للمفاهيم وإرساء للحقائق يجب علينا أن نعلم أن الإسلام جاء
بالحد من تعدد الزوجات الذي كان في الجاهلية, ولم يأت بتعدد الزوجات كما
يظن بعضهم كأصل في التشريع أو الرواية.
وفي المقابل لم يرد أمر لمن تزوج واحدة بأن يتزوج أخرى, وذلك لأن تعدد الزوجات ليس مقصودا لذاته وإنما لأسباب.
فلم يرد تعدد الزوجات في القرآن الكريم بمعزل عن أسبابه, فالله -عز وجل-
قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء:3], فالذين فسروا الآية الكريمة أو درسوها كنظام إنساني اجتماعي
فسروها بمعزل عن السبب الرئيسي الذي أنزلت لأجله, وهو وجود اليتامى
والأرامل, إذ إن التعدد ورد مقرونا باليتامى, حيث قاموا بانتزاع قوله
تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ
وَرُبَاعَ} دون القول السابق, والذي صيغ بأسلوب الشرط {وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى} وكذلك دون القول اللاحق, والذي يقيد
تلك الإباحة بالعدل, حيث قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً} فمن ذهب إلى القرآن الكريم لا يجد دعوة مفتوحة صريحة للتعدد
دون تلك القيود التي أشرنا إليها, وقد سلكت السنة النبوية السلوك نفسه
قولا وعملا, ففي الرؤية أخبر أنه خلق آدم وله زوجة واحدة ولم يعدد,
فأصل الخلقة الواحدة وفي التشريع أباح ولم يأمر وشتان بين أن يكون الإسلام
أمر بالتعدد وأن يكون قد أباحه فحسب, فضلا عن أن تكون تلك الإباحة مرتبطة
بأسبابها ومقيدة بأكثر من قيد في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وقوله في آخر الآية: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا
تَعُولُوا} أي: {ذَلِكَ} وهو الاكتفاء بواحدة, أقرب ألا تجوروا وتميلوا
عن حقوق النساء, إذ التعدد يعرض الرجل إلى الجور وإن بذل جهده في
العدل: فللنفس رغبات وغفلات, وهذا ما يتفق وظاهر قوله سبحانه: {وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}
[النساء:129].
إذن الإسلام وازن بين حقوق الفطرة الإنسانية واحتياجاتها وبين الواجبات
المترتبة على تلك الحقوق, في معادلة يصعب إنكار حكمتها العالية أو الغفلة
عن مقصدها في تحري الاستقرار النفسي والاجتماعي في المجتمع, وهذا ما
أشار إليه كثير من المنصفين الغربيين في تلك القضية.
فيري العالم (توس) أن الدواء الكافل للشفاء من هذا الداء, هو الإباحة
للرجل بالتزوج بأكثر من واحدة وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة, وتصبح
بناتنا ربات بيوت, فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على
الاكتفاء بامرأة واحدة, فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن
إلى التماس أعمال الرجال, ولابد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج
بأكثر من واحدة.
أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين؟ أصبحوا
كلاً وعالةً وعارًا في المجتمع الإنساني, فلو كان تعدد الزوجات مباحًا
لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان, ولسلم
عرضهن وعرض أولادهن. فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار.
ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل, وعليه ما ليس
عليها, وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين
المنار485/4 نقلا عن جريدة: (لندن ثرو) بقلم بعض الكتاب ما ترجمته
ملخصا) وهذا الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهور يقول: إن قوانين الزواج
في أوروبا فاسدة المبنى, بمساواتها المرأة بالرجل, فقد جعلتنا نقتصر
على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا, وضاعفت علينا واجباتنا.. -إلى أن
قال- ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجا يتكفل بشئونها,
والمتزوجات عندنا قليل, وغيرهن لا يحصين عددا, تراهن بغير كفيل: بين
بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة, ومخلوقات ضعيفة من
الطبقات السفلى, يتجشمن الصعاب, ويتحملن مشاق الأعمال, وربما ابتذلن
فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار, ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف
بنت عمومية, سفك دم شرفهن على مذبح الزواج, ضحية الاقتصار على زوجة
واحدة, ونتيجة تعنت السيدة الأوروبية, وما تدعيه لنفسها من الأباطيل.
أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره
(الإسلام روح المدنية, لمصطفى الغلاييني ص224, وهذا الرقم الذي ذكره
شوبنهور كان في عهده حيث توفي سنة 1860م).
وقالت أني بيزانت زعيمة الصوفية العالمية في كتابها الأديان المنتشرة في
الهند: ومتى وزنا الأمور بقسطاس العدل المستقيم, ظهر لنا أن تعدد
الزوجات الإسلامي الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء, أرجح وزنا من
البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته, ثم
يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره.
وقال غوستاف لوبون: إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي
في الأمم التي تمارسه, ويزيد الأسر ارتباطا, ويمنح المرأة احتراما
وسعادة لا تجدهما في أوروبا.
ما سبق يؤكد لنا أن نظام تعدد الزوجات أو إباحة التزوج بأكثر من واحدة,
تحقيقا لمقاصد الشريعة التي نص عليها الشرع الإسلامي, ليس منقوضا عند
كثير من المفكرين الغربيين, وقد رأينا شهادة بعض مفكريهم, وأن إباحة
ذلك التعدد بشروطه هي في الحقيقة تكريم للمرأة كامرأة, لأن الإنسان لابد
أن تكون نظرته متكاملة, فقصر النظر على المرأة التي يتزوج الرجل عليها
ليس إنصافا, فإن التي سوف يتزوجها الرجل هي امرأة كذلك, كرمها الشرع
بأن سمح للرجل أن يتزوج منها لعلاج ما يعانيه المجتمع من مشكلات اجتماعية
واقتصادية.
الإمام العلامة علي جمعة